Top Main Menu
Loading...
لماذا يتحول الغرب إلى اليمين؟

 


لفترة طويلة هيمن الوسط المتحالف مع اليسار التقدمي على المشهد السياسي في الغرب، مدفوعاً بالنفوذ المتزايد لليسار التقدمي في الأوساط الإعلامية والاقتصادية والأكاديمية، وانزوى اليمين المحافظ واليسار الكلاسيكي وخفتت أصواتهم إلا قليلاً، حتى ظن الكثيرون أن لا عودة لهم.

بل إن اليمين المحافظ شرع يتمسح بالمظاهر اليسارية التقدمية بخطوات متسارعة حرصاً على البقاء في المشهد. ولكن فجأة وفي خلال بضع سنوات عاد اليمين ليبرز بقوة وينافس بشراسة على السلطة في أوروبا وأمريكا الشمالية، وليس أي يمين بل اليمين المتشدد أو حتى المتطرف... فما الذي حصل؟

بداية دعني أذكرك بالحقيقة التي يعرفها الجميع ولكنهم يتجاهلونها دائماً، وهي أنه سواء كان اليمين أو اليسار أو الوسط السياسي، فهم جميعاً في النهاية مجرد أقليات من الناحية الإحصائية، وفي بلد ديموقراطي فإن مصير السلطة يحسم في النهاية عند أبواب العامة غير المسيسة من الشعب، والذين يختارون في النهاية أي كذاب يتبعونه. فهم يعلمون أن الجميع يكذب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فالبعض يكذب باسم الإله والبعض يكذب باسم الاقتصاد والرفاه، والبعض باسم الحرية والتقدم والتنوير، والبعض باسم الأمن والاستقرار، والبعض باسم الوطن أو القومية أو العرق أو ... أو .. وهلم جراً... إنهم يعرفون أن اللحظة التي يقفون فيها أمام صناديق الاقتراع ما هي الا اللحظة التي يختار كل منهم فيها الباقة التي تحمل النكهة التي يفضلها من الأكاذيب في حينها ويأمل أن يصدُق أحدهم ويحقق وعوده ولو لمرة.

Ammar Moussa

وبعد أن قيل هذا دعنا نعود إلى موضوعنا، إن هيمنة اليسار التقدمي كانت مدفوعة بعوامل تاريخية يطول شرحها ولكنها أيضاً كانت مدفوعة بل وقائمة على أكاذيب مستمرة توهم الجميع بأن الجميع غدا يسارياً متقدماً وأن التخلف عن الركب والقطيع هو تخلف عن الحياة وهجرٌ لها. أكاذيب تغمرهم بالوعود الزائفة البراقة التي لا حصر لها. ورغم ذلك حافظ الناخب الغربي على نوع من التوازن للحفاظ على الديموقراطية، وأبقى اليمين المحافظ واليسار الكلاسيكي أحياء ولو على الهامش.
 
ولكن... تدريجياً بدء العامة بالشعور أن الأجندة اليسارية التقدمية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية لم تقدم لهم سوى نمط جديد من العبودية الاقتصادية الحديثة لا تختلف كثيراً في جوهرها عن عبودية الرأسمالية الكلاسيكية أو العبودية الاشتراكية الشيوعية، إن لم تكن أسوأ منهما، وفي ذلك وجهة نظر معتبرة. وذلك في الوقت الذي كانت تسلب منهم هويتهم الثقافية والاجتماعية تحت لواء العولمة وحماية الأقليات وأجندات اقتصادية غامضة. وهنا وجد اليمين فرصته للضرب على وتر الحساس واكتساب أرضية أوسع ولو قليلاً على الساحة كل يوم. ثم أتت موجات اللجوء خلال الحروب في أفغانستان والعراق وسوريا، والنزاعات الأفريقية التي لا ينتهي أحدها حتى يبدأ الآخر بفعل فاعل يكاد يُجمِعُ المحللون أنه يد غربية. أتت موجات اللجوء هذه لتضخ المزيد من الدماء في عروق اليمين وتعطيه قبلة الحياة ليعود وينهض من جديد ويُسمع صوته.

إن هذا التحول لم يكن بالضرورة دعماً لأجندة اليمين أو تطرفه بقدر ما كان نوعاً من الاحتجاج ومحاولة لكبح اليسار التقدمي واستعادة بعض التوازن. ولكن مع مرور الوقت ازداد الشعور بأن الأجندة اليسارية التقدمية شديدة التطرف بل وربما تكون أسوأ الخيارات المطروحة على الساحة. إذ كشرت الفاشية الليبرالية عن أنيابها. فسياسات حماية الأقليات التي كانت تستثير حفيظة الناخبين بدأت تتحول إلى سياسة حكم الأقليات وتَسلُطها، والحماية المفرطة لما يُسمى بمجتمع الشواذ والتي كان أغلب العامة يبتلعها كارهاً باسم الحرية ومسايرة التطور والعصر، انقلبت هذه السياسة إلى تقديسهم والإفراط في تلبية رغباتهم ونزواتهم النرجسية المريضة، والرفاه الاقتصادي بدأت تتبخر أحلامه فوق نار النيوليبرالية الاقتصادية.

ومع ذلك، فإن نقطة التحول العنيف لدى الأغلبية غيرالمسيسة في الغرب كانت حين بدأت الأجندة الجندرية تفرض بقوة القانون على الأطفال والمراهقين، مستغلة هشاشة بنيتهم النفسية والفكرية، والتي يبدو أن الإعلام والتعليم الليبرالي الحديث يسعى جاهداً لتغذيتها والحفاظ عليها على هذا النحو. وقد سمعت ذلك بنفسي من العديد من الأوروبيين والأمريكيين، بل وترددت بعض الأقاويل أن بعض المشاهير في أميركا من بين هؤلاء الذين قرروا التحول نحو اليمين الجمهوري بسبب معاناتهم مع أطفالهم بسبب الأجندة الجندرية.

إنهم يرون هذه الأجندة الجندرية وقد نسبت زوراً وبهتاناً إلى العلم وهو منها براء، إذ لا تقوم إلا على ضلالات فكرية هي أقرب للجنون، وليس ذلك فحسب، بل إن عواقبها على ضحايها على المدى الطويل مؤلمة بدرجة يصعب تصورها. إنهم يرون هذه الأجندة لم تعد فقط تفرض بقوة القانون، بل وظهرت معها ثقافة الإلغاء لاسكات الأصوات المعارضة لها ووأدها في مهدها، في ظاهرة تذكرنا بأساليب الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى ومحاكم التفتيش في الأندلس أو حتى الشوفينية النازية أو الفاشية أيام هتلر وموسيليني، حتى وإن خلت (حتى هذه اللحظة على الأقل) من المظاهر البدنية للعنف والأذى والعقاب أو حتى الإلغاء الفسيولوجي من الوجود. إنهم باختصار يرون دكتاتورية فكرية ترفع شعار الدفاع عن الحرية في حين تسلب منهم حق الاعتراض على تدمير فطرة وحياة أبنائهم!!

Ammar Moussa

إن النقطة التي قرر فيها اليسار التقدمي الدفع بهذه الأجندة المتطرفة على الساحة هي نقطة الإنقلاب لدي الكثيرين في الغرب، وأظن أننا في قادم الأعوام سنرى مزيداً من الصعود اليميني والأفول التدريجي لقوة اليسار التقدمي في الغرب. 
ولكن في خضم كل هذا، فمن الضروري أن نلاحظ أن هناك أحداثاً كبرى قادمة قد تعيد تشكيل المشهد كلية من جديد، وربما تفرز اتجاهات سياسية جديدة قد تكون أكتر اعتدالاً أو أكثر تطرفاً على الناحيتين، وما أزمة كورونا وحرب أوكرانيا وتداعيات أزمة المناخ في أوروبا إلا الفصل الأول من هذه الأحداث.

ARB عمار موسى