Top Main Menu
Loading...
الدورة الإبداعية

الدورة الإبداعية

من ضمن ما يساعد على تحقيق التوازن المطلوب بين إنغماسنا في العمليات الإبداعية وبقية جوانب الحياة هي القدرة على التحكم بالوقت الذي نقضيه في العملية من دون التأثير على العملية نفسها، وهو ما يعني من ضمن ما يعنيه أننا بحاجة لتحديد مواعيد نهائية لإنهاء العمل والانتقال إلى شيء آخر، وهو الأمر الذي يعاني المبدعون دائماً معه بل ويكرهون هذه الكلمة أصلاً ليس فقط بسبب تأثير ذلك بشكل عام على حريتهم وقدرتهم على الإنتاج والإبداع ولكن أيضاً بسبب الضغط الذي تشكله مثل هذه المواعيد على أعصابهم.

إن التعامل مع هذه المعضلة يحتاج إلى أمرين، أولهما استراتيجية ناجحة لتقدير الوقت اللازم أو الممكن بذله في العملية، وهنا فإن الأمر سيختلف من فكرة أو مشروع إلى آخر، ومن مجال إلى مجال، بل وأيضاً من شخص آخر، والخوض في ذلك ربما يحتاج كتاباً والمكتبات عامرة بالكتب التي يمكن أن تساعد في هذا الشأن لذا فسأركز هنا على الأمر الثاني المهم للتعامل مع المعضلة. إنه قدرتك على التعاطي بإيجابية مع هذه المواعيد النهائية والالتزام بها..

ففي معظم الحالات، يكون من الضروري احترام مثل هذه المواعيد النهائية بطريقة أو بأخرى؛ فبغض النظر عن الجوانب المالية، فإن المواعيد النهائية موجودة بطريقة ما لأسباب عقلانية، والسبب الأكثر وضوحاً هو الحفاظ على الحد الأدنى المقبول من النظام والتوازن.

مما يساعد على تحقيق ذلك هو فهمك لديناميكيات العملية الإبداعية نفسها أو ما يمكن أن ندعوه ببساطة فهمك للدورة الإبداعية.

إننا نبدأ العملية عادة بفكرة واضحة في أذهاننا، ولكننا نحتاج إلى الحرية لتطويرها. هذه الحرية وذلك التطوير الحر يؤديان في نقطة ما إلى نوع من الارتباك، مما يؤدي إلى الفوضى ما لم يتم التعامل معها بشكل صحيح وفي وقت مبكر بما فيه الكفاية. هذا الارتباك يجعلك تشعر بالحاجة إلى ترتيب الأمور من جديد وإعادة فرض النظام؛ وحينها تبدأ في اتخاذ الترتيبات المناسبة واتباع نوع من الإجراءات للتحكم في تدفق العمل. لكن بعد مرور بعض الوقت، يؤدي ذلك إلى نوع من البيروقراطية التي تضعف إبداعنا وتؤلم أعصابنا. وإذا لم نصلح الأمور بالسرعة الكافية، فإن إبداعنا سيختنق حتى الموت. ولهذا السبب ننتقل مرة أخرى إلى الحرية وهلم جراً. إنها حلقة أو لعبة لتحقيق توازن ديناميكي طوال الوقت بين النظام والحرية.
هذه القفزات بين مرحلتي الحرية والتنظيم عادة ما تتم بعد أن نتجاوز نقطة ما، يمكن أن نطلق عليها ذروة المرحلة التي نصل فيها إلى الحد الأقصى من إنتاجيتنا لكل وحدة زمنية، ويبدأ المنحنى في الانقلاب.
أيضاً.. نحن نبدأ العملية الإبداعية بأفكار معينة، ولكن نادراً ما يحدث أن ينتهي بنا الأمر بنفس الأفكار تماماً. فنحن نستمر في تطوير وبناء أجزاء وتدمير أجزاء أخرى كاستجابة لشعورنا الفوري بالرضا عن النتائج الإجمالية. في العديد من المجالات الإبداعية، يتم التعبير عن ذلك بالحديث عن دورات متتالية، ومع كل دورة جديدة نفهم رؤيتنا أكثر فأكثر. ومع تقدمنا من دورة إلى أخرى، يبدأ المنتج النهائي في أخذ شكله النهائي المستقر تدريجياً.

إن مراحل الحرية هي عادةً المكان الذي نبني فيه أجزاءً وأفكاراً جديدة.. في مرحلة إعادة التنظيم، نقوم بمهام التدمير وإعادة التصنيع لقطع الذيول وإزالة جميع الأجزاء غير الضرورية التي تربك رؤيتنا الشاملة الجديدة.
والآن، لمنع فشل عملياتك الإبداعية، ولكي تكون قادراً على احترام المواعيد النهائية، يجب أن تضع في اعتبارك أنه يجب أن يكون لديك دائماً الحس السليم لتعرف متى تتوقف عن تغيير الرؤية وتبدأ في تجميد الإطار الخارجي أو العام لمنتجك أو فكرتك. إنك بحاجة إلى ذلك حتى تتمكن من الاستمرار في البناء على أرض صلبة وتجنب الغرق في تغييرات لا نهاية لها حيث يتشتت انتباهك بسبب سباق الأفكار وذلك الوحش الجائع والجشع بداخلك الذي يريد أن يفعل كل شيء في نفس الوقت، حتى لو كانت أشياء متناقضة في بعض الأحيان.

أيضاً يجب أن تحافظ على التوازن بين التحرك عمودياً وأفقياً، بين الغرق عمودياً عند نقطة معينة، والتحرك أفقياً نحو خط النهاية.. سيتطلب هذا منك أن تفهم أنه من المهم التضحية ببعض الأفكار لتتمكن من الاستمرار في التحرك أفقياً.
في الواقع، فإن هذه النقطة تحديداً هي أحد الأسباب غير المالية الرئيسية لتحديد المواعيد النهائية.. فبدون نوع من المواعيد النهائية التي يتم تحديدها بطريقة أو بأخرى، يميل الأشخاص المبدعون إلى الغرق عمودياً بشكل أعمق وأعمق. قد يكون ذلك مفيداً، لكنه يجعل إنهاء أي خطط أولية أمراً شبه مستحيل.

وأخيراً هنا، يجب أن تتعلم متى يحين وقت الكمال، ومتى يحين وقت التخلي عنه. إذ أن مرض البحث عن الكمال غير الضروري يأتي مع الإبداع معاً في عبوة واحدة في معظم الأوقات.

فالحقيقة أنه في حوالي 95% من الحالات تقديرياً، فإن مستوى 95% من الكمال أو الجودة أكثر من كافٍ. فإذا استثنينا الأمور التي لها علاقة بالأسلحة أو بالطاقة النووية، أو تلك التي تكون فيها الأرواح أو المبالغ المالية الكبيرة على المحك، فإن السعي باستمرار للوصول إلى مستوى 100% هو ببساطة طريقٌ يقودك نحو الجنون..

والطريف هنا هو أن هذه الـ 5% الأخيرة تستهلك عادة قدراً هائلاً من وقتك وطاقتك يمكن أن يتساوى مع ما تم بذله في الـ 95% الأولى أو ربما يفوقه. لذا يجب أن تتعلم أن تعرف متى تكتفي.. متى يحين وقت التوقف والرضا..
بمعنى آخر، يجب أن تتعلم كيفية اختيار المستوى المناسب من الكمال المطلوب أو المقبول مع مراعاة الظروف.. إنه التوازن الضروري بين الإبداع والقدرة والواقع.

ARB عمار موسى